الأحد، ٢ سبتمبر ٢٠١٢

مليونية اليسار فى "طلعت حرب"!!

دعت بعض الفصائل اليسارية أمس الأول إلى "مليونية" جديدة فى وسط القاهرة، وقد حددوا مبكراً أنها فى وسط القاهرة، فى ميدان طلعت حرب، وليس فى ميدان التحرير، رغم أن التحرير هو رمز الثورة، كما أن التحرير هو الميدان الذى يمكنه أن يستوعب مئات الآلاف من المتظاهرين، ولكن ميدان طلعت حرب لمن زاره أو يعرفه ميدان صغير لا يسع أكثر من بضع عشرات، وفى أحسن الظروف بضع مئات من المتظاهرين، وكان هذا الاختيار ـ منذ البداية ـ مؤشرا على إدراك منظمى التظاهرة بأنهم لن يستطيعوا أن يحشدوا عددا "لائقا" من المحتجين، وبالتالى كان ميدان طلعت حرب "ستر" لهم ، بدلا من "الفضيحة" لو ذهبوا إلى ميدان التحرير، وأنا لا أقول هذا تشفيا فى أحد أبدا، وإنما لتحديد بديهيات، حاول بعض منظمى التظاهرة أمس تزويرها بالحديث عن عشرات الآلاف شاركوا فيها، وكنت أتمنى أن يكون هذا الكلام صحيحا، ولو سار مائة شخص فقط فى شارع طلعت حرب المزدحم عادة بالمتسوقين والمتسكعين، فإنك ستتصور أن هناك حشدا حقيقيا، وفى الحقيقة هم بضع مئات اختلفنا فى وسط القاهرة أمس فى التدقيق فى رقمهم، البعض قال ثلاثمائة والبعض الآخر قال إنهم تجاوزوا خمسمائة بقليل، والحقيقة أن مثل هذه الوقفات تضر ولا تنفع، لأنها تكشف عن "هشاشة" المعارضة المصرية الآن، وقلت وأؤكد ألف مرة، إن وجود معارضة قوية وفاعلة ونشطة شرط لصحة وعافية المشروع الديمقراطى، ولكن المعارضة القوية لا تكون بابتذال تعبير "المليونية" على هذا النحو، حتى أصبح كل عشرة أفراد يجتمعون فى مقهى يمثلون مليونية، بل إن أحد الزملاء الصحفيين فى "المصريون" قرر إطلاق وصف "المليونية" على حفل خطوبته من زميلة، وقال فى بيان علقه فى الصحيفة إن مليونية حفل خطوبته يأتى ردا على مليونية "أبو حامد"!!، فالمسألة وصلت إلى حد النكات والطرافة، اليسار فشل فى "مليونيته" أمس الأول، ليس فقط لعجزه عن الحشد الجماهيرى، وإنما أيضا لغياب الرؤية للمطالب المعقولة والمنطقية التى تقنع الناس بالتضامن معك، فالحديث الفضفاض والمجانى عن "إسقاط دولة المرشد" لن يقنع أحدا الآن، والانتقادات الموجهة للدكتور محمد مرسى بأنه فشل فى تحقيق أهداف الثورة كلام فى غاية الإسفاف السياسى، ويستحيل أن تنجح به فى حشد أى متعاطف إلا إذا كانت تستهويه فكرة شتيمة الإخوان فى حد ذاتها، فلا يعقل أن تحاكم رئيس جمهورية على أنه خلال شهرين من بداية حكمه لم ينجح فى تحقيق العدالة الاجتماعية، هذه هستيريا سياسية، فالعدالة الاجتماعية ليست "زرا" كهربائيا تضغط عليه فى احتفالية بعد قص شريط الحفل لتعم تلك العدالة ربوع البلاد، وإنما هى حزمة قوانين ومشروعات وإنجازات تستغرق سنوات تنمو فيها مقدرات البلاد وينمو فيها الوعى التشريعى ويقترب تدريجيا من أمل العدالة الاجتماعية، فالعدالة الاجتماعية ليست كما اختزلها المتظاهرون أمس الأول فى تحسين الأجور أو وضع حد أعلى وحد أدنى، وإنما العدالة الاجتماعية فى جوهرها أن يتساوى سكان أبعد نجع أو قرية فى صعيد مصر أو مرسى مطروح أو سيناء مع سكان وسط القاهرة فى البنية الأساسية من طرق ومياه وكهرباء وصرف صحى والصحة والتعليم والمواصلات والاتصالات والخدمات وفرص العمل، لا أن تكون هناك مناطق للنخبة ومواطنى الدرجة الأولى ومناطق للترسو ومواطنى الدرجة العاشرة، كما أن محاولة الانشغال الآن بالحركة فى الشارع وتجاهل استحقاقات ديمقراطية خطيرة للغاية بعد شهرين أو ثلاثة فى انتخابات برلمانية تاريخية وحاسمة، يعنى إدراكاً من اليسار بعجزه عن تحقيق أى حضور سياسى حقيقى عن طريق الديمقراطية وصناديق الانتخاب، فيهرب إلى "شغب" الشوارع الذى يحسنه أى أحد، وهو يدرك أنه إذا نجح فى تحريك ألف متظاهر فإن الآخرين قادرون على تحريك مليون، اليسار المصرى فى حاجة إلى مراجعة فكرية وسياسية جسورة كتلك التى حدثت فى إسبانيا وفى فرنسا وفى إيطاليا، فدفعت باليسار إلى صدارة المشهد شريكا فى السلطة أو منفردا بها، واليسار المصرى أيضا فى حاجة إلى "فرز" جديد بين اليسار المنبطح والانتهازى والذى كان يمثل فناءً خلفياً للحزب الوطنى وذراعا موثوقا به لزكريا عزمى وصفوت الشريف، واليسار الوطنى النبيل الذى كان يضحى بالفعل ويدفع ضريبة البحث عن الحرية، ولا داعى لذكر أسماء وشواهد، فالكل يعرف ما أقول بالأسماء والشواهد.   
almesryoongamal@gmail.com

ليست هناك تعليقات: