الأحد، ٣٠ مايو ٢٠١٠

تصدير الغاز المصرى لإسرائيل: قرار سياسى أم التزام قانونى؟


قلت مراراً أن المشكلة فى مصر ليست فى وجود شماعة اسمها اتفاقية السلام التى تبرر بها الحكومة كل خطاياها أمام الشعب، ولكن المشكلة لها جانبان حول هذه الاتفاقية: الجانب الأول هو أن إسرائيل بالتفاهم مع مصر استخدمت هذه الاتفاقية لكى تخرج مصر تماماً من مناطق وجودها ونفوذها ومكانتها فاستقالت مصر من العالم العربى وإفريقيا والعالم الإسلامى وغيرها، وقد رأينا أن انحسار مصر فى إفريقيا وتحريض إسرائيل عليها، جعل إفريقيا تنظر إلى مصر نظرة معادية، فمصر هى التى تستولى على معظم محصول المياه من نهر النيل، ومصر هى التى تقتل الأفارقة الذين يتسللون عبر أراضيها إلى إسرائيل، وهى التى قتلت عشرات من أبناء جنوب السودان فى أحد ميادين القاهرة ومصر هى العاجزة التى تعتمد على خبراء إسرائيل فلا تقدر من باب أولى أن ترسل خبراء إلى إفريقيا ولا أن تلوم الأفارقة إن استعانوا بإسرائيل، ومصر عند الأفارقة هى الدولة المتشحة بالفساد والاستبداد والفقر والقهر فلا تصلح نموذجاً مشرفاً لأحد، وحال الحكم فى مصر كحال الحكم فى عدد من الدول الإفريقية التى تصدى الغرب لها لاعتبارات تخص المصالح الغربية. فانكسرت شوكة مصر فى إفريقيا أمام إسرائيل وانفتح الباب واسعاً بعد أن كانت مصر الناصرية توحده أمام "التسلل الإسرائيلى" فى إفريقيا، وصار لإيران وليبيا كدول صغيرة ومتوسطة حضور وأوراق بينما فقدت مصر هذه الأوراق، مما أثر على آخر معقل لها وهو مياه نهر النيل المصدر الوحيد للحياة فيها.

والحق أنه يبدو لي وأرجو أن أكون مخطئا أن الحكومة فى مصر تفضل مصلحة إسرائيل على مصالح الشعب المصرى لأسباب لا تزال غامضة علينا، ولكنى أصبت بالدهشة والصدمة أن يتصور وزراؤنا أن الشعب المصرى بهذا القدر من الجهل والغباء حتى يجتهد الوزراء فى تضليله. صحيح أن قربهم من إسرائيل وبيعهم كل شئ لإسرائيل لن يحاسبهم عليه أحد، فلماذا يجتهدون فى التبرير ويسوقون أعذاراً لا تستر عورتهم، وتكون فى كل مرة أقبح من الذنب. من ذلك أن أساتذة للقانون أساءوا إلى أنفسهم قبل أن يسيئوا إلى هذا الشعب تبرعوا بالقول بأن الحكومة ملزمة بتصدير الغاز المصرى لإسرائيل تنفيذاً لاتفاقية السلام. ولم يشعر ممثل الحكومة أمام القضاء الإدارى بالخجل والصغار والمهانة وهو يتقدم بمذكرة يؤكد للمحكمة ذلك كذباً وبهتاناً لأن الغاز لم يرد له ذكر فى الاتفاقية أصلا ولم يكن معروفاً كسلعة تجارية، وقد أكدنا ذلك لهم مراراً. ثم أكدت محكمة القضاء الإدارى أن انتهاك الحكومة للدستور واغتصاب سلطة البرلمان عمل مشبوه واغتصاب لقرار يتعلق بالموارد الطبيعية فردت الحكومة بأن تصدير الغاز من أعمال السيادة وكأن أعمال السيادة فى مصر الحالية هو انتهاك الدستور الذى تم ترقيعه وإهانته، للتغطية على استمرار تصدير الغاز لإسرائيل. وقد أكدت المحكمة الإدارية العليا بعد طعن الحكومة فى قرار محكمة القضاء الإدارى الآمر للحكومة بوقف تصدير الغاز لأنه إهدار لثروات طبيعية تخص الأجيال القادمة، وأن سعره أقل بكثير من تكاليف استخراجه أو أسعاره السوقية العالمية، وطالبت الحكومة بالتفاوض لتصحيح أسعاره، وبألا تصدر إلا ما يفيض عن حاجة الشعب، كعادة الحكومة فى التحايل والتزوير والالتفاف لاتحترم أحكام القضاء، وهذا السلوك هو أيضاً من أعمال السيادة.
الجديد هو أن السيد وزير البترول أجرى مقابلة مع جريدة "المصرى اليوم" المصرية نشرت يوم 15 مايو 2010 أكد فيه أن تصدير الغاز لإسرائيل تم بناء على "كامب دافيد" أى اتفاقية السلام. ويبدو أنه تذكر أن هذا الزعم سبق تفنيده فعمد فى تفاصيل المقابلة إلى القول بأن "تصدير الغاز لإسرائيل" جاء بناء على جدوى اقتصادية تصب لصالح الاقتصاد المصرى وأن ملحق اتفاقية كامب دافيد ينص على تصدير كميات من الزيت الخام سنوياً وأن تصدير الغاز إليها بدلاً من الزيت الخام يعد أكثر "إفادة" للاقتصاد المصرى بالنظر إلى حاجته، لأن احتياطى الغاز أكثر بكثير من البترول.
وهذا التصريح يناقض الحقيقة فى الجوانب الآتية:
- أن الوزير نفسه صرح من قبل بأن مصر تستورد الغاز وتشترى حصة الشريك الأجنبى لتنفيذ عقد الغاز.
- أن التزام تصدير الزيت لإسرائيل بموجب اتفاقية السلام قد انتهى منذ عام 1994 بنص الاتفاقية (15 عاما)
- أن الغاز الذى يصدره بأقل من دولارين يناقض قرار المحكمة الإدارية العليا ويتحداه ويعمل ضد مقتضاه.
- أن هذا الغاز ضد صالح الاقتصاد المصرى وإعانة حكومية للمواطن الإسرائيلى على حساب المواطن المصرى.
من ذلك يتضح أن تصدير الغاز لإسرائيل قرار سياسى يوفر على إسرائيل المليارات ويدعم قطاع الطاقة بنسبة عالية كشف عنها موقع الخارجية الإسرائيلية.
ولذلك فإننى أرجو من كل الوزراء أن يكفوا عن تبرير بيع الغاز لإسرائيل، ولكن عليهم أن يفسروا لنا لماذا يحتقرون حكم الإدارية العليا أم أن هذا الاحتقار أيضاً هو من أعمال السيادة؟
لقد فقدت كل مصداقية فى هذه الحكومة ولكنى أنصح الوزراء أن يدركوا هذه الحقيقة لأن كل كلمة ينطقون بها تعمق أزمة الثقة العميقة أصلاً وتستفز مشاعر الناس، خاصة النخبة الوطنية الحقة، وننتظر اليوم الذى تصحو فيه ضمائرهم، ولكن ضمائرهم لا تصحو إلا بعد نزع غشاوة المنصب عنهم.

السفير د. عبدالله الأشعل

ليست هناك تعليقات: