الجمعة، ١٣ فبراير ٢٠٠٩

اختارت إيران ذكرى ثورتها الإسلامية لتعلن عن نجاحها فى إطلاق قمر اصطناعى، صمم وأنتج وأطلق بخبرات إيرانية، مدشنة بذلك دخولها عصر علوم الفضاء مثلما دشنت من قبل دخولها عصر علوم الذرة. وكان من الطبيعى أن تحس إسرائيل، ومعها الدول الغربية، بانزعاج شديد من هذا الإنجاز الجديد مثلما أحست بالانزعاج من الإنجاز الذى سبقه.
ولا يعود السبب الحقيقى لهذا الانزعاج إلى قلق مشروع من الانعكاس المحتمل لتلك الإنجازات على قدرات إيران العسكرية، كما تدعى إسرائيل، ولكن من نهضة علمية قد تؤدى إلى تحويل إيران إلى دولة إقليمية كبرى.
فكما أصرت إسرائيل على أن نجاح إيران فى امتلاك تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم ليس له سوى معنى واحد وهو رغبة إيران فى إنتاج وامتلاك السلاح النووى، ها هى اليوم تصر من جديد على أن نجاح إيران فى إطلاق قمر اصطناعى ليس له سوى معنى واحد وهو رغبة إيران فى امتلاك وتطوير صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية إلى مسافات طويلة يمكنها أن تصل إلى إسرائيل وأوربا وربما الولايات المتحدة!
المعلومات المتاحة حتى الآن تشير إلى أنه ليس لدى إيران برامج وخطط لتصنيع القنبلة النووية، فهى طرف فى معاهدة حظر انتشار السلاح النووى، وتعلن صباح مساء استمرار التزامها بالأحكام الواردة فيها والتى لا تحظر عليها القيام بعمليات تخصيب، وتخضع لإشراف وتفتيش الوكالة الدولية للطاقة النووية لم تقدم أى دليل حتى الآن على أن لدى إيران برنامجا لإنتاج القنبلة النووية.
ومن المعروف أنه سبق للمخابرات المركزية الأمريكية نفسها أن أصدرت تقريرا نشرته الصحف العالمية منذ أكثر من عام يؤكد تخلى إيران تماما ونهائيا عن أى برامج لتصنيع السلاح النووى منذ العام ٢٠٠٣. فكيف يمكن، فى سياق كهذا، أن نفسر هذا الهلع الإسرائيلى والغربى؟
التفسير العقلانى الوحيد الذى ليس بوسعنا أن نعثر على تفسير سواه أن إسرائيل والغرب لا يثقان بالنظام الإيرانى ولا يستريحان له، ومن ثم يتشككان فى نواياه.
لكن من الطبيعى أن تثور هنا مجموعة أسئلة تتعلق بطبيعة هذه الشكوك لابد وأن نبحث لها عن إجابة واضحة حتى لا تختلط علينا الأمور. فهل هى شكوك تتعلق بسوء نوايا النظام الإيرانى تجاه إسرائيل، أم تجاه دول الخليج العربية، أم تجاه الدول الغربية نفسها؟ وهل تعود إلى الطبيعة الأيديولوجية للنظام الإيرانى الإسلامى أم إلى أسباب أخرى خفية؟
يصعب فى العادة تقديم إجابات علمية قاطعة على أسئلة تتعلق بالنوايا ولكن باستطاعتنا، على الأقل القيام بقراءة تاريخية يمكن بسهولة أن نستدل منها على:
١- أن مشكلة إسرائيل ليست مع إيران وحدها ولا مع الطبيعة الأصولية لنظامها السياسى ولكن مع كل نظام فى المنطقة يرفض الخضوع لإملاءاتها. فعندما تمردت مصر عبدالناصر على هذه الإملاءات منح الغرب لإسرائيل ضوءا أخضر لتوجيه ضربة لها عام ٦٧ رغم أن نظامها الحاكم لم يكن أصوليا أو إسلاميا.
وعندما تمرد عراق صدام على هذه الإملاءات تولت الولايات المتحدة بنفسها استدراجه إلى مصيدة انتهت بغزوه وتدميره عام ٢٠٠٣، رغم أن نظامه الحاكم كان من ألد أعداء الأصولية الإسلامية وحجر الأساس فى أى مخططات استهدفت تحجيم طموحات إيران الإقليمية!
٢- لا تملك الدول الغربية سياسة مستقلة عن السياسة الإسرائيلية. فالحفاظ على أمن إسرائيل، بصرف النظر عن سياستها تجاه العرب، هو أحد أهم مكونات السياسة الخارجية للدول الغربية. ولا وجه للغرابة هنا لأن إسرائيل هى صنيعة الغرب وكانت ولاتزال أداته للهيمنة على المنطقة، وأى نظام لا يقبل بسياسات إسرائيل فى المنطقة، ناهيك عن أن من يقاومها يعرض نفسه حتما لمعاداة الغرب.
٣- إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى العالم التى ليس لها حدود سياسية واضحة، وهى نتاج مشروع صهيونى يستهدف إقامة دولة يهودية خالصة على ما يسميه «أرض توراتية» لا يعرف أحد بالضبط أين تقع ولا ماهية حدودها. ولأن هذا المشروع لم يكتمل فسوف تظل إسرائيل فى حالة توسع مستمر إلى آخر ما تسمح لها به حدود القوة!.
فى سياق كهذا من الطبيعى أن ترى إسرائيل فى أى دولة عربية أو إسلامية قوية لا تقبل بسياستها كما هى ولا تقيم علاقات معها، عقبة يتعين إزالتها. ومن هنا عداء إسرائيل والغرب لمصر عبدالناصر فى الستينيات، ولعراق صدام فى التسعينيات، ولإيران الآن.
٤- كان بوسع إسرائيل والدول الغربية أن تعثر على حلفاء من داخل المنطقة، تارة باسم «الإسلام» وأخرى باسم «العروبة»، تستعين بها لحصار أو ضرب الدولة العاصية المستهدفة. ويبدو أن دول المنطقة لم تتعلم الدرس بعد!
من هنا شعورى بالانزعاج تجاه ما تبديه بعض الدول العربية من استعداد، يصل أحيانا إلى درجة الحماس والتحريض، للدخول طرفا فى تحالف تسعى إسرائيل باستماتة لحشده الآن فى مواجهة إيران.
من الطبيعى أن يكون لى، كأى مواطن عربى آخر، تحفظات كثيرة على بعض سياسات إيران، خصوصا تجاه الجزر الإماراتية، والتى لاتزال تحتلها وترفض تسويتها بالطرق القانونية، وتجاه العراق، والذى لا تريد أن تقوم له قائمة بعد الآن. غير أن التباين فى الأيديولوجيات والمواقف والسياسات، وحتى فى المصالح، لا يبرر للدول العربية بأى حال من الأحوال التحالف مع إسرائيل والغرب لعزل إيران أو محاصرتها أو ضربها، لأن المستفيد الوحيد سيكون العدو المشترك ولن يحصد العرب من ورائه سوى العلقم. وأظن أنه آن الأوان للاستفادة من دروس الماضى والاعتراف بأن البعض ارتكب فى حق إيران أخطاء يجب أن نعمل جميعا على ألا تتكرر أبدا.
فهل نسينا نحن العرب أن الرئيس السادات، غفر الله له، هو الذى بدأ العداء للثورة الإيرانية حين استضاف الشاه فى مصر دونما مبرر من مصلحة وطنية أو قومية، وأن الرئيس الراحل صدام حسين هو الذى بادر بشن الحرب عليها عام ١٩٨٠.
أليس من المدهش حقا بالنسبة لنا نحن العرب أن نرى إيران، والتى حوصرت بالعقوبات عقب ثورتها الإسلامية وخرجت من حربها مع العراق شبه محطمة ومهزومة، وقد أصبحت الآن واحدة من أقوى دول المنطقة، بينما مصر والعراق، الدولتان المؤهلتان لقيادة العالم العربى، فى تلك الحالة المزرية من الهوان؟. فالعراق قد استدرج إلى «مصيدة حرب» أدت إلى تدميره وإخراجه كليا من معادلة فى المنطقة.
أما مصر فقد استدرجت إلى «مصيدة سلام» أفقدتها حيويتها وحولتها إلى عراب تسوية لحساب إسرائيل. ويبدو أن اللعبة لم تنته بعد. فبعد نجاح الغرب فى استدراج العراق إلى مصيدة حروب أدت إلى خرابه، واستدراج مصر إلى مصيدة تسويات أدت إلى حشر نظامها بين مطرقة الفساد وسندان الفساد! يبدو أن الدور جاء الآن على السعودية والتى تجرى الآن مؤامرة لاستدراجها نحو «مصيدة الطائفية» التى لن تنجو من نارها.
ربما كان المرء على استعداد لفهم التصعيد الحالى للصراع مع إيران لو كان لدى العرب مبرر معقول، وكانوا قادرين على إدارته بوسائلهم الخاصة، أما ألا يكون لديهم أى مبرر لتصعيد لا يملكون حتى وسائل إدارته بأنفسهم، فهذا هو الحمق بعينه. وإذا كان الهدف هو منع إيران من استخدام فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية وسيلة لتعظيم نفوذها فى المنطقة، فلماذا لم يقدموا هم الدعم المطلوب للمقاومة أو يضغطوا على حلفائهم الأمريكيين والإسرائيليين لقبول تسوية تلبى الحد الأدنى من مطالبها المشروعة؟
لقد وقع بعض العرب فى الماضى فى وهم الاعتقاد بأن كراهيتهم لصدام حسين تكفى مبررا للتحالف مع الولايات المتحدة لتخلصهم من نظامه، وكانت النتيجة وقوع العراق بالكامل تحت الهيمنة الإيرانية.
ويبدو أنهم يعتقدون أن كراهيتهم للنظام الإيرانى تكفى مبررا للتحالف مع إسرائيل لإنقاذهم من ثورة إسلامية بدأوا يحسون بلهيبها يكاد يلفح وجوههم. غير أن العاقبة لن تكون كما يأملون، بالأرجح أن يفضى هذا التحالف، خصوصا إن تم وفق الوسائل والآليات التى جربت فى الحالة العراقية، بوقوع الخليج العربى كله إما تحت الهيمنة الإيرانية أو تحت الهيمنة الإسرائيلية.
هل بوسع أحد أن يفسر لنا ما يجرى فى هذه المنطقة؟ كيف لدولة إيران المحاصرة بالعقوبات والحروب لما يقرب من ثلاثين عاما أن ترتقى إلى مصاف الدول النووية والفضائية، بينما تتقهقر مكانة مصر، والتى تعيش حالة «سلام» منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما إلى دور السمسار السياسى. هل هى «شطارة» فارسية أم «خيبة» عربية أم الاثنتان معا.
يبدو أن خيبتنا العربية أصبحت «تقيلة قوى». وقد يرى البعض أنها خيبة حكومات وليست خيبة شعوب تستحق بالقطع أفضل مما هى فيه الآن. لكن متى تستيقظ هذه الشعوب المسحوقة بين أطماع الخارج واستبداد الداخل وفساده. هل من مغيث؟
د.حسن نافعة

ليست هناك تعليقات: