الأحد، ٨ فبراير ٢٠٠٩

دوائر الفساد !

هناك قناعة متزايدة في مصر بأننا نعيش في ظل مناخ سياسي وإداري يشجع على الفساد ، ويحمي المفسدين ، وتصل هذه القناعة إلى حد اليقين عند ملايين المصريين ، وبدون شك فإن الممارسات التي يواجهها الناس بشكل يومي في حياتهم العادية مع الجهاز الإداري للدولة أو أي جهاز سياسي أو غيره تعطي هذا الانطباع بوضوح ، كما أن أي زائر لمصر سواء من المواطنين المهاجرين أو الأجانب يحتك بأي إدارة رسمية سيصله هذا الانطباع من "أول نظرة" ! ، ويمكن للمواطن العادي أن يجرب هذا الأمر بنفسه ، وأن يذهب بما لديه من أوراق أو وقائع فساد طافح من النوع الذي يسمونه "عيني عينك" ولينتظر النتيجة ، سيجد هذا الموظف أو الشخص الذي طعن فيه وقدم أدلة فساده يتم تكريمه وترقيته وتوسيده لمناصب أعلى ، وإذا أخذتهم الرحمة والشفقة بالمواطن "الطيب" الذي كشف الفساد سيتركونه في حال سبيله مقتنعين أنه لن يعود لمثلها ، أما إذا أرادوا مكافأته على شكواه من الفساد أو فضحه فسوف ينكل به وبأهله ويغلق في وجهه ما كان مفتوحا من الأبواب ، أحد كبار الموظفين في وزارة كبيرة تعتبر "نهيبة" لأي قيادي فيها ، ودرج الناس على سماع أخبار الفساد فيها كحوادث عادية في السنوات الأخيرة ، كان يتصل بي هاتفيا وهو يصرخ ويكاد يجن مما يرى ويعايش ، قال لي أنه جمع ملفا كاملا لفساد اثنين من كبار موظفي مكتب الوزير ، مدعم بالوثائق المصورة وبالأرقام والوقائع المحددة التي لا يمكن الفكاك منها ، وكان في غاية السعادة والنشوة وهو يقدم ملفه الشامل إلى جاز كبير مختص بكافحة الفساد الإداري واعتبر أنه قدم لوطنه خدمة جليلة ، ولكنه وجد أن الأيام تمر والأسابيع دون أن يتحرك ساكن في الموضوع ، بل لاحظ أن الموظفين المطعون في فسادهما ، يزدادان وحشية في سلوكهما الفاسد ويزداد نفوذهم في مكتب الوزير ، كما أن معالم الانبساط والترف على وجوههم تثير الحيرة فيما يحدث ، حتى حدث ذات يوم ـ والرواية لصاحبنا المصدوم ـ أن كان متجها إلى مكتب الوزير مصادفة ، ففوجئ بأن الشخصية الرفيعة العاملة في الجهاز المعني بمكافحة الفساد والذي تم تسليمه الملف الأسود ، يخرج من المكتب متأبطا ذراع أحد الاثنين المتهمين بالفساد وهما يجلجلان المكان بضحكاتهما ومزاحهما المسف ، قال لي صاحبي أن الرجل عندما وقعت عينه عليه تغير وجهه وامتقع لونه وسحب يده من مرافقه وهرول باتجاه سلم المبنى دون انتظار للمصعد ، الرجل من فرط غضبه قال لي : حدثتني نفسي يومها أن ألحق به وأن ألقيه من فوق السلم إلى أسفل السافلين !، وكاتب هذه السطور يملك صور مكاتبات بين رئيس مجلس الشعب ووزارات مهمة تطلب الرد على وقائع فساد صريحة نشرتها صحيفة المصريون ، وكان هذا الموضوع من أكثر من عام ونصف ، وحتى الآن لم ترد الوزارة ، كما لم يعاود مجلس الشعب السؤال وكأن مكاتباته كانت من باب جبران الخاطر أو العمل البيروقراطي البحت ، ولم يمس أي مسؤول من الذين طالتهم اتهامات الفساد بأي مكروه حتى الآن ، والحقيقة أن الفساد يصعب إن لم يستحيل مقاومته أو إزالته في ظل أجواء غير ديمقراطية ، مكافحة الفساد لا يمكن أن تتم بجدية وكفاءة إلا في ظل فصل حقيقي بين السلطات ، واستقلالية حقيقية للأجهزة الرقابية وتبعيتها الإدارية والقانونية والسياسية ، أما عندما تكون السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية جميعها رهن قبضة شخص واحد وإشارته أو حتى مؤسسة واحدة ، فستكون الأمة أمام حلقات ودوائر فساد محكمة ومغلقة على ذاتها ، لا تعرف أول حلقة الفساد من آخرها ، كما يصبح الخوض في ملفات الفساد في أي اتجاه بمثابة الدخول في غيابات جب عميق لا ترى قاعه ، ولا يسقط منه أو يظهر إلا ما أرادت الدوائر ذاتها إخراجه من اللعبة لأسباب تخصها هي وحدها .
جمال سلطان (المصريون) : بتاريخ 8 - 2 - 2009

ليست هناك تعليقات: